الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولا يقولن أحد: إن القرآن لم يستطع أن يأتي بقصة كاملة مستوفية؛ فقد شاء الحق سبحانه أن يأتي بقصة يوسف من أولها إلى آخرها، مُسْتوفية، ففيها الحدث الذي دارتْ حوله أشخاصٌ، وفيها شخصٌ دارتْ حوله الأحداث.فقصة يوسف عليه السلام في القرآن لا تتميز بالحَبْكة فقط؛ بل جمعتْ نَوعَيْ القصة، بالحدث الذي تدور حوله الشخصيات، وبالشخص الذي تدور حوله الأحداث.جاءتْ قصة يوسف بيوسف، وما مَرَّ عليه من أحداث؛ بَدْءً من الرُّؤيا، ومرورًا بحقد الأخوة وكيدهم، ثم محاولة الغواية له من امرأة العزيز، ثم السجن، ثم القدرة على تأويل الأحلام، ثم تولَّي السلطة، ولقاء الأخوة والإحسان إليهم، وأخيرًا لقاء الأب من جديد.إذن: فقول الحق سبحانه: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص...} [يوسف: 3].يبيّن لنا أن الحُسْن أتى لها من أن الكتب السابقة تحدثت عن قصة يوسف، لكن أحبار اليهود حين قرأوا القصة كما جاءتْ بالقرآن ترك بعضهم كتابه، واعتمد على القرآن في روايتها، فالقصة أحداثها واحدة، إلا صياغة الأداء؛ وتلمُّسات المواجيد النفسية؛ وإبراز المواقف المطْويَّة في النفس البشرية؛ وتحقيق الرُّؤى الغيبية كُلُّ ذلك جاء في حَبْكة ذات أداء بياني مُعْجز جعلها أحسنَ القَصَص.أو: هي أحسن القصص بما اشتملتْ عليه من عِبَر متعددة، عِبَر في الطفولة في مواجهة الشيخوخة، والحقد الحاسد بين الأخوة، والتمرد، وإلقائه في الجبِّ والكيد له، ووضعه سجينًا بظلم، وموقف يوسف عليه السلام من الافتراء الكاذب، والاعتزاز بالحق حتى تمَّ له النصر والتمكين.وكيف ألقى الله على يوسف عليه السلام محبَّة منه؛ ليجعل كل مَنْ يلتقي به يحب خدمته.وكيف صانَ يوسف إرثَ النبوة، بما فيها من سماحة وقدرة على العفو عند المقدرة؛ فعفَا عن إخوته بما روتْه السورة: {قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين} [يوسف: 92].وقالها سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم لأهله يوم فتح مكة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».وهكذا تمتليء سورة يوسف بِعِبَر متناهية، يتجلَّى بعضٌ منها في قضية دخوله السجنَ مظلومًا، ثم يأتيه العفو والحكم؛ لذلك فهي أحسنُ القَصص؛ إما لأنها جمعتْ حادثة ومَنْ دار حولها من أشخاص، أو جاء بالشخص وما دار حوله من أحداث.أو: أنها أحسنُ القصص في أنها أدّتْ المُتَّحد والمتفق عليه في كل الكتب السابقة، وجاء على لسان محمد الأمي، الذي لا خبرة له بتلك الكتب؛ لكن جاء عَرْضُ الموضوع بأسلوب جذَّاب مُسْتمِيل مُقْنع مُمْتع.أو: أنها أحسن القصص؛ لأن سورة يوسف هي السورة التي شملت لقطاتٍ متعددةٍ تساير: العمر الزمني؛ والعمر العقلي؛ والعمر العاطفي للإنسان في كل أطواره؛ ضعيفًا؛ مغلوبًا على أمره؛ وقويًا مسيطرًا، مُمكَّنًا من كل شيء.بينما نجد أنباء الرسل السابقين جاءت كلقطات مُوزَّعة كآيات ضمن سُور أخرى؛ وكل آية جاءت في موقعها المناسب لها.إذن: فالحُسْن البالغ قد جاء من أسلوب القرآن المعجز الذي لا يستطيع واحد من البشر أن يأتي بمثله.يقول الحق سبحانه: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هذا القرآن وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين} [يوسف: 3].والمقصود بالغفلة هنا أنه صلى الله عليه وسلم كان أُمِّيًا، ولم يعرف عنه أحدٌ قبل نزول القرآن أنه خطيب أو شاعر، وكل ما عُرِف عنه فقط هو الصفات الخُلقية العالية من صدق وأمانة؛ وهي صفات مطلوبة في المُبلّغ عن الله؛ فما دام لم يكذب من قبل على بشر فكيف يكذب وهو يُبلِّغ عن السماء رسالتها لأهل الأرض؟إن الكذب أمر مُسْتبعد تمامًا في رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها.والمثال على تصديق الغير لرسول الله هو تصديق أبي بكر رضي الله عنه له حين أبلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الوحي قد نزل عليه، لم يَقُلْ له أكثر من أنه رسول من عند الله، فقال أبو بكر رضي الله عنه: صدقْتَ.وحين حدثتْ رحلة الإسراء؛ وكذَّبها البعض متسائلين: كيف نضرب إليها أكباد الإبل شهرًا ويقول محمد إنه قطعها في ليلة؟ فسألهم أبو بكر: أقال ذلك؟ قالوا: نعم. فقال أبو بكر: ما دام قد قال فقد صدق.وهكذا نجد أن حيثية الصِّدْق قبل الرسالة هي التي دَلَّتْ على صدقه حين أبلغ بما نزل عليه من وحي.مثال ذلك: تصديق خديجة رضي الله عنها وأرضاها له؛ حين أبلغها بنزول الوحي، فقالت له: «والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتَصِلُ الرَّحِم، وتحمل الكَلَّ، وتُكسِب المَعْدُوم، وتَقْري الضَّيف، وتعين على نوائب الحق».وكان في صدق بصيرتها، وعميق حساسية فطرتها أسبابٌ تؤيد تصديقها له صلى الله عليه وسلم في نبوته.وحين وقعت بعض الأمور التي لا تتفق مع منطق المقدمات والنتائج، والأسباب والمسببات؛ كانت بعض العقول المعاصرة لرسول الله تقف متسائلة: كيف؟ فيوضح لهم أبو بكر: انتبهوا إنه رسول الله.مثال هذا: ما حدث في صلح الحديبية، حين يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه متسائلًا ويكاد أن يكون رافضًا لشروط هذا الصلح: ألسْنا على الحق؟ عَلام نعطي الدَّنية في ديننا؟ويرد عليه أبو بكر رضي الله عنه: استمسك بِغَرْزِه يا عمر، إنه رسول الله.أي: انتبه واعلم أنك تتكلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس في ذلك انصياعٌ أعمى؛ بل هي طاعة عن بصيرة مؤمنة.والحق سبحانه يقول هنا: {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين} [يوسف: 3].والغافل: هو الذي لا يعلم لا عن جهل، أو قصور عقل ولكن لأن ما غفل عنه هو أمر لا يشغل باله.أو: أن يكون المقصود بقوله: {لَمِنَ الغافلين} [يوسف: 3].أي: أنك يا محمد لم تكن ممَّنْ يعرفون قصة يوسف؛ لأنك لم تتعلم القراءة فتقرأها من كتاب، ولم تجلس إلى مُعلِّم يروي لك تلك القصة، ولم تجمع بعضًا من أطراف القصة من هنا أو هناك.بل أنت لم تَتَلقَّ الوحي بها إلا بعد أن قال بعض من أهل الكتاب لبعض من أهل مكة: اسألوه عن أبناء يعقوب وأخوة يوسف؛ لماذا خرجوا من الشام وذهبوا إلى مصر؟وكان ضَرْبًا من الإعجاز أن ينزل إليك يا رسول الله هذا البيان العالي بكل تفاصيل القصة، كدليل عمليٍّ على أن مُعلِّم محمدٍ صلى الله عليه وسلم هو الله، وأنه سبحانه هو مَنْ أَوحى بها إليه.والوَحْي كما نعلم هو الإعلام بخفاء، وسبحانه يوحي للملائكة فيقول: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ...} [الأنفال: 12].وسبحانه يوحي إلى مَنْ يصطفي من البشر إلى صفوتهم؛ مصداقًا لقوله سبحانه: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قالوا آمَنَّا واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111].ويقذف الحق سبحانه بالإلهام وحيًا لا يستطيع الإنسان دَفْعًا له، مثل الوحي لأم موسى بأن تلقي طفلها الرضيع موسى في اليَمِّ: {إِذْ أَوْحَيْنَا إلى أُمِّكَ مَا يوحى أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ على عيني} [طه: 38-39].ويوحي سبحانه إلى الأرض وهي الجماد، مثل قول الحق: {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 5].وأوحى سبحانه إلى النحل، فقال الحق: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتًا وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثمرات فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا} [النحل: 68-69].والحق سبحانه يوحي لمن شاء بما شاء، فالكل؛ جماد ونبات وحيوان وإنسان؛ من خَلْقه، وهو سبحانه يخاطبهم بِسِرِّ خلقه لهم، واختلاف وسائل استيعابهم لذلك. اهـ.
سكَّن راءَها ضرورةً، فيجوز أن يكونَ العربيُّ منسوبًا إلى هذه البقعة.قوله تعالى: {أَحْسَنَ القصص}: في انتصاب: {أحسنَ} وجهان، أحدهما: أن يكونَ منصوبًا على المفعول به، ولكنْ إذا جَعَلْتَ القصصَ مصدرًا واقعًا موقعَ المفعولِ كالخَلْق بمعنى المَخْلوق، أو جعَلْتَه فَعَلًا بمعنى مفعول كالقَبَضِ والنَّقَص بمعنى المَنْقُوص والمقبوض، أي: نَقُصُّ عليك أَحْسَنَ الأشياءِ المقتصَّة. والثاني: أن يكونَ منصوبًا على المصدرِ المُبَيِّنِ، إذا جَعَلْتَ القصصَ مصدرًا غيرَ مرادٍ به المفعولُ، ويكون المقصوصُ على هذا محذوفًا، أي: نَقُصُّ عليك أحسنَ الاقتصاص. و: {أَحْسَنَ} يجوز أن تكونَ أفْعَل تفضيلٍ على بابها، وأن تكونَ لمجرَّدِ الوصفِ بالحُسْن، وتكون من بابِ إضافة الصفةِ لموصوفِها، أي: القصص الحسن.قوله: {بِمَا أَوْحَيْنَا} الباءُ سببيةٌ، وهي متعلقةٌ ب: {نَقُصُّ} و: {ما} مصدريةٌ، أي: بسبب إيحائنا.قوله: {هذا القرآن} يجوز فيه وجهان، أحدهما: وهو الظاهرُ أن ينتصبَ على المفعولِ به ب: {أَوْحَيْنا}. والثاني: أن تكون المسألةُ من بابِ التنازع، أعني بين: {نَقُصُّ} وبين: {أَوْحَيْنا} فإنَّ كلًا منهما يطلبُ: {هذا القرآن}، وتكونُ المسألةُ من إعمال الثاني، وهذا إنما يتأتى على جَعْلِنا: {أَحْسَنَ} منصوبًا على المصدرِ، ولم نُقَدِّرْ ل: {نَقُصُّ} مفعولًا محذوفًا.قوله: {وَإِن كُنتَ} إلى آخره تقدَّمه نظيرُه. اهـ.
|